حقيقة ديانة كوماري في نيبال: طفلة تتحول إلى إلهة حتى لحظة البلوغ

في ركن قصي من هذا العالم، وتحديدًا في قلب العاصمة النيبالية كاتماندو، تعيش طقوس مدهشة تتجاوز الخيال وتتمازج فيها الأسطورة بالدين والتقاليد الراسخة منذ مئات السنين. إنها قصة ديانة كوماري، حيث تتحول طفلة صغيرة إلى إلهة حية تُعبد بكل خشوع حتى يحين موعد سقوط قدسيتها بلحظة بشرية بحتة: لحظة البلوغ.

هنا، لا تُعامل الطفلة ككائن هش أو روح بريئة تحتاج للرعاية والاحتواء، بل تُعامل كإلهة مطلقة القدرة، تُمنح مكانة روحية فريدة وسط مجتمع يرى فيها تجسيدًا حيًا لقوة مقدسة تضمن له السلام والحماية والبركة.

في نيبال، حيث تتداخل الأديان والطقوس القديمة، تتجلى الكوماري كطقس مركب يمزج بين الأسطورة الهندوسية ومعتقدات طائفة النيور البوذية. لكن خلف هذا التقديس المهيب، تقبع حكايات إنسانية شديدة التعقيد، تطرح تساؤلات صعبة عن الطفولة والهوية والحق في الحياة الطبيعية.

في هذا المقال الموسع عبر موقع النصر الاخباري، نغوص معًا في أعماق تقاليد ديانة كوماري، نستكشف جذورها التاريخية والدينية، طقوس اختيار الإلهة الطفلة، حياتها داخل المعبد، والنهاية الحتمية التي تعيدها فجأة إلى عالم البشر.

كما نناقش أبعادها النفسية والاجتماعية والقانونية، في ظل الجدل الحقوقي المتصاعد حول ما إذا كانت الكوماري تمثل تكريمًا للأنثى أم استغلالًا مقنعًا لبراءة الطفولة.

ما هي ديانة كوماري الحقيقية؟

كلمة “كوماري” في اللغة النيبالية تعني “الفتاة العذراء”، وفي سياق هذا التقليد تشير إلى الفتاة التي يتم اختيارها لتكون تجسيدًا حيًا للإلهة “تالجو” أو “دورغا” وفق المعتقد الهندوسي، أو روح الإلهة الحامية للمدينة بحسب البوذية النيبالية.

وتعود جذور هذه العبادة إلى القرن السابع عشر عندما ساد الاعتقاد بأن الإلهة دورغا ترغب في العيش بين الناس بهيئة بشرية لحمايتهم من الشرور والكوارث الطبيعية. ومن هنا، وُلدت طقوس اختيار الكوماري وفق شروط غريبة دقيقة تشبه الأساطير القديمة.

بين الأسطورة والواقع: من هن الكوماري؟

تُختار الكوماري من بين فتيات طائفة النيور البوذية التي تمثل شريحة مهمة في المجتمع النيبالي، وتبدأ عملية الاختيار عادة في عمر 3 إلى 5 سنوات، حيث تجوب لجان دينية متخصصة المنازل بحثًا عن طفلة تتمتع بالمواصفات الجسدية والروحية الدقيقة المطلوبة.

تُؤخذ الطفلة من أسرتها، وتُقيم في “بيت الكوماري” أو المعبد الخاص بها وسط كاتماندو القديمة. هنا، تصبح حياتها مفصولة تمامًا عن واقع الطفولة العادية. لا تذهب إلى المدرسة، لا تلعب، لا تختلط بالأطفال الآخرين، بل تُعامل باحترام وإجلال مطلقين، وكأنها قطعة من السماء تمشي على الأرض.

ويُعتقد أن حضور الكوماري في المهرجانات والمواكب السنوية يجلب البركة والصحة والازدهار للمجتمع، لذلك يتهافت الآلاف لرؤيتها والانحناء أمامها طلبًا للرضا والشفاء من الأمراض.

طقوس اختيار الكوماري: 32 معيارًا صارمًا

لا يأتي اختيار الكوماري عشوائيًا أو استنادًا للجمال التقليدي وحده، بل يخضع لقائمة طويلة من المعايير الروحانية والجمالية التي يصل عددها إلى 32 شرطًا، أبرزها:

  • أن تكون رموشها طويلة وكثيفة تشبه عيون البقرة.
  • أفخاذها ممشوقة كالظبي.
  • صوتها واضح مميز ويُقال يشبه صوت البط في نقائه.
  • بشرتها صافية كالمرمر دون عيوب.
  • أسنانها مكتملة دون فقدان أي ضرس أو ناب.
  • شعرها أسود ناعم قوي لا يتساقط بسهولة.

لكن الأغرب من ذلك كله هو اختبار الثبات الانفعالي الذي تمر به الطفلة. إذ تُوضع في غرفة مظلمة لعدة ساعات وسط رؤوس وجلود حيوانات مذبوحة، ويُراقب تصرفها، فإذا أظهرت أي علامة خوف أو بكاء، تُستبعد فورًا من الترشيح، إذ يُعتبر الثبات والشجاعة المطلقة دليلًا على روح الإلهة القوية داخل جسدها الصغير.

الحياة داخل المعبد: طفلة في جسد إلهة

بمجرد إعلان اختيارها، تنتقل الكوماري للإقامة الكاملة داخل المعبد الذي يصبح عالمها الوحيد. لا يُسمح لها بالمشي على الأرض مباشرة، بل تُحمل على مقاعد أو أكتاف الرجال عند تنقلها حتى لا تتلوث قدماها بما هو دنيوي.

ترتدي دائمًا ثيابًا حمراء زاهية، ويرسم على جبينها رمز “العين الثالثة” باللون الأحمر والذهبي، باعتباره تجسيدًا لقوتها الروحية ونظرتها الخارقة للأشياء.

لا يُسمح للكوماري بالابتسام أو الضحك أو البكاء أمام الناس، إذ يُعتقد أن تعبيراتها تحمل دلالات إلهية خطيرة، فالابتسام قد يعني الرضا، بينما البكاء أو الغضب يشير إلى قرب الكوارث أو نهاية فترة ألوهيتها.

طقوس المواكب والاحتفالات السنوية

خلال العام، تخرج الكوماري في عدة مواكب احتفالية أبرزها مهرجان “إندرا جاترا”، حيث تطوف بها شوارع كاتماندو القديمة على عربة خشبية ضخمة مغطاة بالزهور والحرير الأحمر، بينما يزحف الرجال والنساء والأطفال على الأرض لمباركتها والتضرع إليها طلبًا للشفاء أو المال أو الإنجاب.

وفي تلك اللحظات، تظهر الكوماري بكامل زينتها، محاطة بالكهنة والحراس، وهي تحدق في الأفق بوجه جامد خالٍ من التعبيرات، في صورة تجسد مزيجًا مذهلًا من القداسة والغموض الإنساني العميق.

النهاية الحتمية: سقوط القداسة بلحظة إنسانية

رغم مكانتها التي تكاد تماثل الآلهة، إلا أن مصير الكوماري محتوم، فبمجرد ظهور أول علامات البلوغ وسقوط أول قطرة دم حيض، تُسقط عنها الألوهية على الفور، وتُعاد إلى منزل أسرتها، أو أحيانًا تُرسل للإقامة مع أقاربها لتبدأ حياة جديدة كفتاة عادية.

يُقام احتفال رسمي لتوديعها، ويُعلن خلاله “تقاعدها”، وتمنح مبلغًا ماليًا كبيرًا نسبيًا كتقدير لخدمتها الروحية للمجتمع. لكن المأساة أن أغلبهن يعانين نفسيًا واجتماعيًا بعد العودة، إذ لا يعرفن كيف يتعاملن مع الناس أو يذهبن للمدرسة أو حتى يمشين بحرية بعد سنوات من التقييد والتقديس.

ديانة كوماري: أسطورة مقدسة أم انتهاك طفولي؟

لطالما أثير جدل واسع محليًا ودوليًا حول طبيعة تقليد الكوماري، فبينما تراه السلطات النيبالية جوهرة الهوية الثقافية والدينية، تعتبره منظمات حقوق الطفل انتهاكًا صارخًا لطفولة الفتيات وحرمانًا لهن من التعليم والاندماج الطبيعي في المجتمع.

ورغم الانتقادات، تؤكد الحكومة النيبالية أن طقس الكوماري قائم على الاختيار الطوعي، وأن الفتاة تعامل معاملة مميزة وتحظى بكل الرعاية والاحترام، كما أنها لا تُجبر على الزواج لاحقًا، ويحق لها إكمال تعليمها بعد تقاعدها، لكن الواقع يثبت أن غالبية الكوماري يعانين من صدمات نفسية طويلة الأمد.

الفقرة الختامية: عبودية مغلفة بالدين أم تكريم للأنثى؟

تظل ديانة كوماري واحدة من أغرب الطقوس الدينية في العالم، حيث يُرفع جسد الطفلة إلى مرتبة الإلهة دون اعتبار لطفولتها، ثم يُعاد إنزالها فجأة إلى مرتبة البشر حين يزهر جسدها بأنوثة كاملة. إنها علاقة غريبة بين الإيمان والأسطورة، بين القوة والضعف، بين القداسة المطلقة والحرمان الإنساني.

ويبقى السؤال مفتوحًا أمام الضمير الإنساني: هل تقديس الأنثى بهذه الطريقة هو تكريم لروحها أم استغلال لبراءتها في خدمة أسطورة قديمة؟ ربما ستظل الإجابة غائبة ما دامت الطفلة لا تملك صوتًا لتقول رأيها في مصيرها.

مروان سعيد

كاتب ذو خبرة واسعة في الصحافة الرقمية، يتميز بمهاراته العالية في البحث والتحليل. يسعى دائمًا لتقديم محتوى متجدد وذي قيمة للقراء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى